الثورة الفرنسية، خطأ فولتير؟
فرونسوا دورتييه
ترجمة يوسف اسحيردة
في مقطع مؤثر من رواية «البؤساء»، يتسلق طفل الشوارع جافروش فوق الحواجز. وعندما تُصيبه رصاصة، ينهار مُرَدِّدًا الأغنية الشهيرة : «سَقَطْتُ على الأرض، إنه خطأ فولتير… »
هذه الأغنية التي أعاد فيكتور هيجو كتابتها، تستعيد فكرة رائجة في القرن التاسع عشر : الثورة الفرنسية هي بِنْتُ فلسفة الأنوار. من هذا المنظور، يكون فولتير وروسو وغيرهم، من خلال كتاباتهم، قد بَثُّوا قِيَمًا جديدة طيلة القرن الثامن عشر: الحرية، المساواة، حقوق الانسان. وبالتالي فقد قاموا بتقويض أسس النظام القديم والتمهيد للثورة.
في عمله الضخم، «جذور فرنسا المُعاصرة» (1876)، أعاد المؤرخ، إيبوليت تين، النظر في المسألة. وهو يعتقد أن الروح الثورية لليعاقبة قد اِسْتُلْهِمَت مباشرة من جان جاك روسو و«العقد الاجتماعي». لماذا روسو عوض فولتير أو حتى مونتسكيو، ديدرو أو آخرين؟ نصف قرن بعد تين، سَيُدافع المؤرخ دانييل مورنيه، في كتابه «الجذور الفكرية للثورة الفرنسية»، عن فكرة مفادها أن الأنوار عموما، ومُختلف مؤلفي الكتب والمقالات والمنشورات الهجائية المُعادية للملكية والكنيسة تحديدا، قد نزعوا الشرعية عن السلطة القائمة ومهدوا الطريق أمام الثورة.
إن تحميل الفلاسفة وكتبهم مسؤولية ثورية، معناه التقليل من أهمية العوامل الكثيرة التي أفضت إلى هذه الأحداث. منذ قرنين، لا تعوز القراءات التي تُفسر الثورة بالعديد من الأسباب: الأزمات اقتصادية، الصراع طبقي، تهاون الملك، دينامية الحرب الأهلية، الخ. إن كل عصر يُعيد ابتكار التاريخ بحسب اهتمامات الوقت الراهن. نقول إن الماضي يُضيء المستقبل؟ ربما العكس هو الصحيح…
في مطلع التسعينات، أعاد المؤرخ، روجر شارتييه، فتح ملف «الجذور الثقافية للثورة الفرنسية» تحت زاوية جديدة. كان التوجه السائد آنذاك هو التاريخ الثقافي أو «تاريخ التمثلات». كان الأمر يتعلق بمحاولة فهم الطريقة الذي ذاعت بها، خلال القرن الثامن عشر، ثقافة سياسية شديدة الانتقاد تجاه الملكية المُطلقة والكنيسة، وداعمة في نفس لقيم الحرية والمساواة.
أصالة هذه المقاربة تكمن في مُراقبة كيفية تفشي الأفكار الجديدة داخل المجتمع. من وجهة النظر هذه، يُمكن القول إن الصالونات الأدبية، والمقاهي، والجرائد، والأعداد الكبيرة للكتب والمنشورات الهجائية (التي ظهر بعضها من تحت المعاطف)، ومناقشات المقاهي (الشبكات الاجتماعية لذلك الوقت)، كلها أمور ساهمت في تغيير عقليات الفرنسيين. هذا الرأي السياسي كان قد تأكد كَسُلطة أيديولوجية مُضادة.
في نفس سياق التاريخ الثقافي، اهتم مؤرخون آخرون بأشكال من الأفكار كانت مؤثرة أثناء الثورة: الرموز (ماريان، لامارسييز، القبعة الفريجية، الخ.)، مُتخيل الرعب أو المؤامرة.
غير أن المشكلة تبقى في تحديد حجم الأهمية التي ينبغي إعطاؤها لهذه الأفكار في مجرى الثورة…والمؤرخون عاجزون عن الإجابة على هذا السؤال. التصور الضمني الذي يتشاركه الجميع هو أن الأفكار تُشَكِّلُ عوامل مؤثرة من بين عوامل أخرى (اقتصادية، اجتماعية، سياسية)، مع افتقاد الوسائل اللازمة لتقدير الوزن النسبي لكل عامل…هذه هي الوضعية الحالية.
أصول هندية للثورة؟
ماذا لو لم يكن روسو وفولتير وحتى اسيبنوزا هُم الذين ألهموا الثورة الفرنسية، وإنما هنود أمريكا؟ رغم طابعها المُفَاجِئ، فهذه هي الأطروحة التي يُدافع عنها بحماسة كل من ديفيد غرايبر وديفيد وينجرو في كتابهما «في البداية كان. تاريخ جديد للإنسانية» (2021)، وهي لا تفتقر للحجج…
«وُلِدَ الإنسان حرا وهو في كل مكان مُكبل بالأغلال»، هذا ما كتبه روسو في توطئة كتاب «أصل التفاوت بين الناس». لكن من أين أتته فكرة أن الإنسان وُلِدَ حُرا؟ صحيح أن روسو قد ابتدع «حكاية رمزية» من خلال تَخَيُّلِ إنسان بدائي يعيش وحيدا في الغابة، لكنه استفاد أيضا من القصص التي كانت رائجة في عصره عن ال«بَرِّيِّين» أو ال«طبيعيين»، الذين نعني بهم في ذلك الوقت هنود أمريكا. هؤلاء كانوا قد دخلوا في صلة مع المستوطنين والمُبشرين والتجار الأوائل.
إن القصص الرحلية التي كانت تصف حياة هذه الشعوب، كانت تلاقي نجاحات كبيرة. سنة 1644، دَوَّنَ جيروم لاليمونت – وهو يَسُوِعِيُّ تم إرساله في مهمة تبشيرية إلى كندا – في رسائله ما يلي : « لا أعتقد أن هناك على الأرض شعبا آخر أكثر حرية منهم. إنهم لا يُخضعون إرادتهم لأي سلطة، مهما كانت، لدرجة أن الآباء ليست لديهم سيطرة على أبنائهم، أو الزعماء على رعاياهم، إلا إذا أرادوا أن يُطيعوهم».
إذا كان الأوربيون يُراقبون الهنود، فإن هؤلاء أيضا كانوا يُراقبون الأوربيين، ونظراتهم كانت غالبا نقدية للغاية. بعضهم قد حظي بفرصة القدوم إلى فرنسا من أجل تعلم اللغة الفرنسية والعمل كوسطاء مع الزعماء الهنود. منهم من صُدم من انتشار الفقراء والمتسولين في دولة بمثل ذلك الغنى. كما أنهم وجدوا صعوبة في فهم سبب ضرب الآباء للأبناء…دون نسيان أن عددا من الهنود كانوا يسخرون من خوف المستوطنين والجنود من زعمائهم. حتى الديانة المسيحية لم تسلم من نقدهم.
اسبنوزا والأنوار الراديكالية
مؤخرا، ذهب أستاذ في جامعة برينستون، هو جوناثان اسرائيل، عكس تيار جيل من المؤرخين، من خلال دعم أطروحتين غير مسبوقتين: في نَظَرِه: 1. لعبت أفكار الفلاسفة فعلا دورا حاسما في الثورة؛ 2. من بين الفلاسفة، ليس روسو وفولتير هما من لعبا دورا حاسما، وإنما اسبنوزا !
اشتهر جوناثان اسرائيل، خلال العقد الأول من هذه الألفية ، بنشر ثلاثة مجلدات ضخمة حول فكر الأنوار، تُحاول تجديد الموضوع بصورة شاملة. بالنسبة له، المقاربة التقليدية التي تجعل من الأنوار عائلة كبيرة بتفرعات وطنية (الأنوار الفرنسية، الألمانية، الإنجليزية، الخ.) لا تسمح بادراك انقسامها إلى تيارين رئيسيين: “الأنوار الراديكالية” و”الأنوار المُعتدلة”. الفلاسفة المعتدلون هم أولئك الذين، مثل فولتير أو مونتسكيو أو حتى روسو، قد انتقدوا السُلُطَات (الملك، الكنيسة، الارستقراطية)، لكن دون الطعن بشكل جذري في النظام القائم. وهكذا فقد كان فولتير ينتقد الكنيسة، لكنه ظل طيلة حياته مؤمنا أو ربوبيا؛ دافع بشراسة عن حرية الفكر، مع بقائه مُناصرا لملكية مُستنيرة.
في المُقابل، نجد، في تيار “الأنوار الراديكالية”، ديدرو أو أولباش أو لاميتري، الذين هم، في نفس الوقت، مُلحدون وماديون وكونيون، وقد وضعوا لبنات حضارة جديدة قائمة على الحرية والمساواة في الحقوق. وقد ألهموا النواب المُوقعين على إعلان حقوق الإنسان والمواطن. هذه “الأنوار الراديكالية”، خرجت من معطف فِكْرٍ وُلد في القرن السابق وكان اسبينوزا هو من اسْتَهَلَّهُ.
لماذا اسبنوزا؟ لأنه الوحيد من بين كل رُواد الأنوار (ديكارت، هوبس، لوك، لايبنيتز)، الذي استطاع أن يدفع بالقطيعة مع نمط التفكير القديم إلى حدودها القصوى، وساهم في صياغة «نظرة جديدة للعالم»: مادية وكونية ومساواتية. أطروحة جونثان لا تتناول جينالوجيا الأنوار وحدها، بل تقترح قلبا كاملا في سببية الثورة. بالنسبة له، يجب «أخذ الأفكار على محمل الجد». أغلبية المؤرخين الذين يجعلون من «القِوَى الاجتماعية والاقتصادية» المُحرك الحقيقي للثورة، يخلطون بين التمرد (والانتفاضة الشعبية) والثورة (التي تستبدل نظاما بآخر).
كثيرة هي الانتفاضة في التاريخ التي كانت أسبابها اقتصادية أو نتيجة إحباطات اجتماعية. لكن الحرب الأهلية وقلب النظام القائم لا يتحولان إلى ثورة إلا إذا كانت النخب التي استولت على السلطة تحمل بداخلها نظرة جديدة للمجتمع. علما أن هذا النموذج المُجتمعي، الجمهوري والديمقراطي، قد تمت صياغته من طرف تيار « الأنوار الراديكالية »؛ وقد ألهم رجال السياسة الذين صاغوا إعلان حقوق الإنسان، وألغوا الامتيازات، وأقاموا الجمهورية. ذلك أن الحركات التمردية لوحدها لا تكفي من أجل ولادة نظام اجتماعي جديد: تلزمها أفكار جديدة تُنير لها الطريق.
انتقادات ومواقف مُنافسة
لقد أثارت أطروحة جوناثتان اسرائيل موجة من الانتقادات. آخذه البعض مثلا على القيام بقراءة تعسفية تسجن المُثقفين داخل تيارين جامدين (راديكالي ومعتدل)، في حين أنهم توزعوا حسب طيف كامل من الأطروحات الوسيطة. أما البعض الآخر فانتقده على الصورة الكاريكاتورية التي رسمها لروبسبيير، مُقدما إياه في صفة «شعبوي». أما الانتقاد الأبرز فيقول باختزال جوناثان اسرائيل للتاريخ في مجرد صراع أفكار بين الفلاسفة، مُتناسيا بذلك السياق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للثورة.
من على صواب، من على خطأ في خضم هذا النقاش؟ من الصعب جدا البت في الأمر.
إذا كان جوناثان اسرائيل على حق، فهذا يقلب رأسا على عقب منظورنا للثورة الفرنسية والتاريخ عموما من خلال إعادة الاعتبار لقيمة الأفكار ودورها. غير أن المشكلة تكمن هنا: لا أحد يمتلك حقا الوسائل التي تُمَكِّنُهُ من الحسم.
يُقدم تاريخ الثورة الفرنسية نفسه باعتباره تَجَاورا لمواقف مختلفة، حيث أن كل مُختص يعطي قيمة لعامل مُفسر ينتمي إلى مجال دراسته – الطقس، الاقتصاد، الاجتماع، السياسة، الأيديولولوجيا، الخ. ومع ذلك فلا أحد باستطاعته قياس النصيب النسبي لهذه العوامل أو الطريقة التي تتضافر بها. إنه واحد من التحديات التي يواجهها التاريخ اليوم.
«في الفترة الممتدة ما بين 1709 و1751، لَعِبَ نَقْدُ السكان الأصليين للمجتمع الاستعماري دورا هائلا في التأثير على الفكر الأوربي»، هكذا لَخَّصَ كل من غرايبر ووينجرو تأثير الانتقادات الهندية على الرأي العام، والتي كانت في نظرهما أشد وقعا من انتقادات الفلاسفة الذين لم تُتَح قراءتهم إلا لنخبة صغيرة.
Sciences Humaines, hors-série n°29, Janvier-Février 2024 (1)
فرونسوا دورتييه
ترجمة يوسف اسحيردة